الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **
التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه. فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم. والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء، بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزرا إلا التوكل، كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن ألا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير ألبتة. وتارة يكون توكل اختيار، وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورا به ذم على تركه. وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضا، فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن، والواجب القيام بهما والجمع بينهما. وإن كان السبب محرما حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه، فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل من أقوى الأسباب على الإطلاق. وإن كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها، ولا سيما إذا فعلته عبودية، فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيا، كما أن من عطلها يكون توكله عجزا وعجزه توكلا. وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء. فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبت إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها. الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم. ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل: والعارف إنما يشكو إلى الله، وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس ،فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، ناظر إلى قول الله تعالى: قال الله تعالى: قال مجاهد : قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ(1) أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد .وأما في البرزخ فقد قال تعالى: وأما في الآخرة فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتهم ونعيمها أعظم من حظ غيرهم. ولهذا قال ابن قتيبة :"لما يحييكم" يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: "لما يحييكم" يعني الجنة. فإنها الحياة الدائمة الطيبة .حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة، والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك.وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده. فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل. فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم. فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه. وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار. كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك، الذي هو رسول الله، من روحه ،فيصير حيا بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات. وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه، قال تعالى ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى. وقال تعالى: وقوله: أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها. ثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور. ثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم. قوله: وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية فهو بينه وبين قلبه، ذكره الواحدي عن قتادة، وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه؟ وعلى القول الأول فوجه المناسبة أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته؛ فيكون كقوله: وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر والإيمان به، فهي كقوله: قوله تعالى: فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه. وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس جنة من الجنات، خبير بالفلاحة، غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتاً ويسقيها وقتاً ولا يترك الماء عليها دائماً، وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد. ويلقي عنها كثيراً من زينتها، وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها. وكذلك الأب الشفيق على ولده بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده(2) ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضياً عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك، وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره. فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: والمقصود: قوله "عدل في قضاؤك" وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم. وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: قال العلامة ابن القيم: فسألت شيخنا: هل يدخل في ذلك قضاء الذنب؟ فقال: نعم؛ بشرطه، فأجمل في لفظه "بشرطه" ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك. لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها، وغم الحزن بعد فواتها فهذا أحد النظرين. النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا. فهي كما قال الله سبحانه: وهذا تقسيم حاضر لا ينفك العبد من أحد القسمين منه، فإيثار الدنيا على الآخرة إما فساد في الإيمان وإما من فساد في العقل. وما أكثر ما يكون منهما؛ ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولو يميلوا إليها، وعدوها سجناً لا جنة؛ فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنورها فردوها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها. وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار سرور. وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وقال خالقهما سبحانه: وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال: وعير سبحانه من رضي بالحياة الدنيا من المؤمنين فقال: وعلى قدر رغبة في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة. ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى وقوله: وقوله: وقوله تعالى: وقوله: وقوله: وقوله: والله المستعان وعليه التكلان. أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها. وتتضرع إليه ألا يقطعان عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فنبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد. وكل شر فأصله خذلانه لعبده. وأجمعوا أن التوفيق ألا يكلك الله نفسك وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فإذا كان كل خير فأصله التوفيق وهو بيد العبد فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجئ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطي العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مُرْتَجًا دونه. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإن الإجابة معه. وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدرهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم. وما أتي من أتي إلا من قِبَل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء. وملاك ذلك الصبر فإنه من الإيمان بمنزله الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء لجسد. ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله. خلقت النار لإذابة القلوب القاسية. أبعد القلوب من الله القلب القاسي. إذا قسا القلب قحطت العين. قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخاطبة. كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب. فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ. من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته. القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها. القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها. شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وظرف الفوائد. إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل،(4) ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه. خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر. إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد. الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا. من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق. لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة. إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همته بخدمته. والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر. ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمداً، ومن كل ما سواه بد ولا بد لك منه. من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو؛ توكلا على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه وسلم الأمر إليه ورضي بما يقضيه له، استراح من الهموم والغموم والأحزان. ومن أبى إلا بتدبيره لنفسه وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب، فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم. والله سبحانه سهل لخلقه السبيل إليه، وحجبهم عنه بالتدبير، فمن رضي بتدبير الله له وسكن إلى اختياره وسلم لحكمه، أزال ذلك الحجاب فأفضى القلب إلى ربه واطمأن إليه وسكن. المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد على الله ولا يدخر مع الله . من شغل بنفسه شغل عن غيره، ومن شغل بربه شغل عن نفسه. الإخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا عدو فيفسده، ولا يعجب به صاحبه فيبطله. الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام. الناس في الدنيا معذبون على قدرهم بها. للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة وثلاثة عالية: فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له. فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقلوب جوالة في هذه المواطن. اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد، فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصداً. وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها. لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره. إذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه ممسكا عن ذنب غيره، جوادا بما عنده، زاهداً فيما عند غيره، محتملا لأذى غيره، وإن أراد به شرا عكس ذلك. الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء: تعرف الصفة من الصفات العليا ؛ تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة المنة ؛ تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكُّر الذنب ؛ تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت في أودية الوساوس والخطرات. من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له. إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام كله فكيف يصل مقصده؟
|